وقعت الازمة المالية العالمية وغدت امرا واقعا نلمس اثارها يوما بعد يوم. الكثير منا لم يكن يتوقع حدوثها والبعض ما زال يعاني الويلات الموجعة من تداعياتها المدمرة والبعض الاخر يقف عاجزا ازاءها لا يعرف كيف يتصرف او ماذا يفعل او كيف يتعامل مع المعطيات الجديدة التي فرضتها الازمة علينا جميعا.
الصدمة كانت قوية ولكن الله عز وجل موجود. فنحن بالايمان (وبالايمان وحده) نستطيع تجاوز الازمات مهما كانت شديدة لان الله سبحانه وتعالى اعظم وارحم "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب" فهو خالقنا فكيف يتركنا لحتفنا او يخلو بنا؟ والان، ماذا نفعل لمواجهة الانكماش الاقتصادي الرهيب الذي القى بظلاله على العالم كله والذي قد يستمر لفترة طويلة (لا قدر الله)؟ ماذا نفعل لتفادي خطر الانزلاق في ركود اقتصادي واسع النطاق ودرء شبح كساد عميق قد يطول امده لسنوات عدة قادمة؟ كيف نتعامل مع هذه الاوقات العصيبة التي عبرت رياحها العاتية على ديارنا كلنا من مشارق الارض الى مغاربها؟ ما هي الخطوات الاحترازية والادوات الاصلاحية المطلوب منا اقرارها لاخراج الاقتصاد العالمي من دائرة الركود وانقاذه من مخالب الكساد؟ وما هي الوسائل والاليات التي يجب علينا ان نستعين بها للتصدي للازمة العالمية الحالية؟ تساؤلات كبيرة ذات ابعاد اكثر عمقا ليس بوسعي ان اقدم لها حلولا اسعافية وافية او علاجات قاطعة شافية، ولكني اتوجه الى الله سبحانه وتعالى قاصدا اياه ان يقدرني على تقديم الواجب الذي احمله على عاتقي بكل صدق وامانة وسائلا اياه أن يهبني الحكمة والبصيرة في تقديم المقترحات التالية التي سادرجها هنا كخطط لانعاش النمو المتباطىء وبرامج تحفيزية لتعزيز النظام المالي والحد من تفاقم الكساد الاقتصادي وتخطي التاثيرات السلبية للجمود المالي الناتج عن ازمة التمويل وشح السيولة وتشديد اجراءات الائتمان ومعايير الاقتراض.
مكافحة الركود الاقتصادي: بادىء ذي بدء لا بد من مراعاة معاناة الناس واوضاع الشركات المازومة من خلال اجراء تخفيضات ضريبية للافراد والشركات (كضريبة الدخل والضرائب المستوفاة على ارباح رأس المال). ان تخفيض الاعباء الضريبية على الشركات (لا سيما الصغيرة والمتوسطة منها) والمواطنين (لا سيما الفئات الاجتماعية غير الميسورة وذوي الدخول المتدنية) سوف يساعدهم وبلا ادنى شك على تجاوز الصعوبات الحياتية اليومية التي افرزتها الازمة المالية العالمية ومضاعفاتها السلبية على الحالة العامة للاقتصاد، الامر الذي ادى الى اعاقة النمو وتوقف عجلة الاقتصاد معلنا بذلك بداية مرحلة جديدة من الانكماش والركود. كذلك لا بد من اصدار كوبونات غذاء ومنح دعم نقدي وعيني لاسر الطبقات الدنيا والمتوسطة من المجتمع والعمل على تفعيل اكبر للاستقطاعات الاجتماعية المالية (كفريضة الزكاة مثلا والتي هي من اركان الاسلام بحسب الاية الكريمة من سورة البقرة "واقيموا الصلوة واتوا الزكوة وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله ان الله بما تعملون بصير") من اجل مساعدة الفقراء والمحتاجين والايتام وذوي الاحتياجات الخاصة الذين لا حول لهم ولا قوة الا بالله العلي القدير في هذه الظروف الصعبة. فنحن، ومن خلال هذه السياسات المالية الضريبية المقترحة، نعقد الامل على زيادة مداخيل الافراد المتصرف بهاdisposable incomes ورفع هوامش الارباح الصافية للشركات after-tax net profitsمن اجل تشجيع الطلب الاستهلاكي والانفاق الاستثماري (الانتاجي) وبالتالي تحريك عجلة الاقتصاد وانعاش النمو المتراخي. كذلك لا بد من تكريس الانفاق الحكومي الراسمالي وضخ الاموال المخصصة في الموازنة العامة في قطاعات الانتاج المادي (كالصناعة والزراعة والتجارة) واقامة مشاريع تنموية حيوية متنوعة من اجل خلق فرص عمل وتشغيل العمالة العاطلة عن العمل، الامر الذي نستطيع معه توليد الدخل وبالتالي محاربة الفقر وتحسين الاوضاع المالية والاجتماعية للمواطنين والحد من نمو البطالة المرتفعة. كذلك لا بد من انشاء مشاريع انتاجية وزراعية وتجارية ميكروية (صغيرة او متوسطة الحجم) في مناطق جيوب الفقر والبطالة القسرية structural unemployment (البطالة التي تتمخض عن غياب او قلة الطلب على العمال المتاحين) وذلك لمساعدة سكان هذه المناطق على تحسين ظروفهم المعيشية واحوالهم المادية واعطاء هذه الشريحة المهمشة من المجتمع فرصة حقيقية للمساهمة في النهوض بالاقتصاد الوطني المحلي.
احتواء التضخم وغلاء الاسعار: لا بد من اجراء تخفيضات على الضرائب غير المباشرة (كضريبة المبيعات ad valorem tax او ضريبة القيمة المضافة value-added tax او الرسوم او الجمارك customs tariffs) على المواد الغذائية والمنتجات الاساسية والمواد الاولية ومدخلات الانتاج (كالمحروقات من ديزل وغاز وكاز وبنزين) ومستلزمات الانتاج (كالورق والكرتون والبلاستيك والحديد الذي يدخل في الصناعات التعدينية مثل المعلبات الغذائية والاسمنت الذي يستخدم في قطاع البناء والانشاءات العقارية) الامر الذي سوف يؤدي الى تخفيض كلف العمالة والمصاريف التشغيلية (الثابتة والمتغيرة) واجور النقل والايجارات ... الخ، مما يمكننا من تمرير هذه التخفيضات على الاسعار وبالتالي دفع معدلات التضخم الى الهبوط ومن ثم تحفيز الانفاق وتنشيط الاسواق وصولا الى زخم اقتصادي اكثر نموا. ويجب ان لا ننسى حقيقة مهمة وهي ان تخفيض الاسعار هو المحرك اللوجستي او المحوري لعجلة النمو المتباطيء وذلك بسبب الزيادة النسبية التي تطرا على وتيرة الطلب على السلع والخدمات والاستثمارات بكافة اشكالها وانواعها.
تسهيل شروط الاستثمار: لا بد من منح تسهيلات وحوافز استثمارية من اجل توفير مناخ جاذب لتوليد استثمارات عربية بينية واجنبية مباشرة and foreign direct investments inter-arab وتحرير الاستثمارات الافقية (الاستثمار في استخراج البترول ومشتقاته) وذلك لجلب جداول من العملات الصعبة hard currency streams وايجاد فرص عمل للمواطنين من شانها ان تساهم في زيادة دخول الافراد ورفع مستوى الخزينة العامة من الايرادات الضريبية التي يتم استيفاءها من الجهات المستثمرة والعمالة الفاعلة وبالتالي تحفيز الطلب الاستهلاكي والانفاق الحكومي العام على السلع والخدمات وزيادة معدلات استثمارات الاعمال business investments، الامر الذي سوف يؤدي الى تحريك وتنشيط الدورات الاقتصادية بطيئة الحركة slow moving business cycles. ولا بد ايضا من تخفيف قواعد المنافسة competition requirements لا سيما في ظل مناخ الاعمال المتراجع حاليا اذا ما اردنا تدفق رؤوس اموال القطاع الخاص وتشجيع المستثمرين (عماد الاقتصاد الخاص private sector economy) وتحسين ثقتهم على تعزيز نشاطاتهم الاستثمارية في مختلف القطاعات الاقتصادية كالطاقة والنقل والتعدين والاتصالات والتكنولوجيا والاسكان والعقارات والسياحة ... الخ. ولكي تؤتي الاستثمارات المرجوة ثمارها لا بد لنا ايضا من العمل على تحرير حركة المبادلات التجارية بين الدول المعنية اذا ما رغبنا في زيادة معدلات التدفق التجاري من استيراد وتصدير بين هذه الدول، وذلك لتوفير بيئة اكثر مرونة وسلاسة للمستثمرين في تحريك منتجاتهم عبر حدود اكثر انفتاحا واستيعابا، وصولا الى تحقيق المنفعة المشتركة لجميع الاطراف.(ملاحظة: يعتمد مدى نجاح دولة ما في استقطاب الاستثمارات الاجنبية على عوامل عديدة منها ظروف الدولة الاقتصادية، بيئة الاعمال فيها، الوعي الثقافي لشعبها، جهودها في تشجيع وجذب الاستثمار، امنها الاجتماعي، واستقرارها السياسي).
توفير السيولة المالية: لا بد من تحرك حازم باتجاه التصدي لازمة السيولة ومحدودية النقد ومعالجة الازمة الائتمانية وندرة القروض الشخصية والاستثمارية وذلك من خلال تبني سياسة مالية تتمثل في التوسع المالي money expansion. فلجمع الاموال مثلا يمكن اصدار سندات متدنية القيمة او معفاة من الضرائب او ذات عائد اكبر لتشجيع المستثمرين والشركات على شرائها، ومن ثم ضخ هذه الاموال في البنوك والمؤسسات والاسواق المالية. كذلك لا بد من حث البنوك المركزية على اعتماد اجراءات نقدية اكثر مرونة وذلك بتسهيل شروط منح القروض من خلال خفض اسعار الفائدة (تقليل تكاليف الأقراض) وتقليص حجم او نسب الاحتياطيات الالزامية المودعة لديها بهدف رفع مستوى السيولة المالية لدى البنوك التجارية. فمن خلال هاتين السياستين المالية والنقدية نستطيع تحسين نشاط الاقراض وزيادة المعروض النقدي في الاسواق لاتاحة السيولة ليس فقط للشركات كي تتمكن من تمويل احتياجاتها الاستثمارية او التوسع في مشاريعها او الاستمرار في ممارسة اعمالها بل ايضا لزيادة قدرة المستهلكين على الشراء وبالتالي التخفيف من حدة عزوفهم عن شراء السلع واستخدام الخدمات، خصوصا فيما يتعلق بشراء المنازل والسيارات والسلع المعمرة durable goods (كالاثاث والتلفزيون والثلاجة والغسالة والكمبيوتر وغيرها) وذلك املا في تحريك مياه الطلب الراكدة وزيادة معدلات الانفاق الاستهلاكي والانتاجي. وبالاضافة الى تعزيز نمو الاقراض (العقاري والاستثماري وغيرهما)، يا حبذا لو قامت البنوك بتمرير تخفيضات الفوائد على القروض الممنوحة مسبقا من خلال اعادة جدولة ديون الافراد والشركات لتمكينهم من الوفاء بالتزاماتهم المالية متعثرة السداد على شكل اقساط ميسرة بفوائد اقل وعلى اطر زمنية أطول. ولا بد ايضا من تقديم مساعدات نقدية للشركات المتضررة التي لا تملك اللجوء الى تمويل مشاريعها عن طريق الاقتراض من المصارف ومؤسسات اقراض المال في ظل شح المعروض النقدي وعجز مصادر هذه الشركات على التمويل الذاتي نتيجة للصعوبات الجمة التي تواجهها في الحصول على سيولة. كذلك لا بد من تقديم حزمة مساعدات مالية وغيرها للمصانع والمشاغل والمزارع التي تعاني من ازمات مختلفة كعدم القدرة على الاستمرار في السوق او مواجهة خطر الاغلاق او تقف على شفير الافلاس او تجد نفسها مضطره الى تسريح عمالها.
زيادة المخزون الإستراتيجي: لابد لنا ايضا من الاهتمام بزيادة مخزوننا الاستراتيجي من المشتقات النفطية والمواد الغذائية الاساسية (كالارز والقمح والذرة والسكر والعدس والزيوت) والسلع الحياتية الضرورية (كالصابون والادوية والمواد التموينية والمحروقات والغاز) عملا بالمثل القائل "خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود". ففي مثل هذه الأوقات البائسة والازمنة الصعبة الحرجة التي اصبح معها التنبؤ بما سيحدث في العالم ولو بعد دقائق معدودة امرا غاية في الصعوبة من شدة التقلبات والمخاطر المالية وحدة الاضطرابات السياسية وتسارع التوترات الإجتماعية هنا وهناك في اطراف مختلفة من العالم. ومن هنا علينا ان نكون على أقصى درجات الحرص والوعي والادراك والتيقظ والثقافة (والاهم من ذلك كله "الصلاة الدائمة" والتوسل الى الله عز وجل كي يراف بنا جميعا ويغمرنا بواسع رحمته له كل الشكر والحمد والتسبيح). فوضع المسرح العالمي اصبح كما لو انه فيلم رعب من نسج الميتافيزيقيا النفسية psychic metaphysics التي تجعلك لوهلة زمنية صغيرة nano second تعتقد انك في مكان ما، في حين أنك بالحقيقة لست لا هنا ولا هناك، ولا يعلم بحقيقة مكان وجودك المادي سوى الله جل جلاله وحده.
اجراء تدابير تقشفية: لا ضير علينا لو قمنا باعتماد حزمة من الاجراءات التقشفية الوقائية والاخذ بسياسة الترشيد وشد الحزام. فالاقتصاد frugality مثلاً في الاستهلاك والانفاق والتقشف الغذائي وادخار بعض المال للضرورات القصوى وحالات الطواريء واعادة توزيع مواردنا توزيعا رشيدا بالشكل السليم الذي يؤمن لنا قوت الغد ما هي الا سلوكيات محمودة سوف تجلب منافع عديدة ان شاء الله. فماذا سيضرنا مثلا لو قمنا (كنوع من احداث بعض التغييرات الاحترازية في انماط استهلاكنا) بمحاربة نقص المعروض الغذائي food supply shortage من خلال العودة الى الزراعة المنزلية لناكل مما تنتجه ايدينا من خضروات وفاكهة ونباتات وبقول؟ ماذا سيضرنا لو ...؟