اللغة العربية تعتمد على الإعراب – كوسيلة لإقامتها – كما فهِم اللغويون، والإعراب هو دال على المعاني، وإنّه حركة داخلة على الكلام بعد كمال بنائه[1]. والإعراب يدخل على آخر حرف في الاسم المتمكن والفعل المضارع، وذلك الحرف هو حرف الإعراب، وفي بعض الكلام ضرورة دعت إلى جعل الإعراب حرفاً، وذلك في تثنية الأفعال المضارعة وهي؛ يفعلان وتفعلان ويفعلون وتفعلين. ورأى سيبويه أنّ ذلك الحرف يسمى حرف الإعراب، وآخر حرف في هذه الأفعال النون، فلو جعلت النّون حرف الإعراب لوجب ضمّها في حال الرّفع، وفتحها في حال النصب، وكان يلزم من ذلك أن تُسكّن في حال الجزْم[2]. وكما قال ابن فلاح"في المغني"[3]: اختلف في حقيقة الإعراب، فذهب قوم :إلى أن الإعراب معنىً، وذهب ثاني: إلى أن الإعراب عبارة عن الحركات وهو الحق، وذهب ثالث: إلى أنها حركات الإعراب، لأن الحركة إن حدثت بعامل فهي للإعراب، وقال غيره: في الإعراب مذهبان؛- أحدهما: أنه لفظيٌّ وهو اختيار ابن مالك، ونسبه إلى المحققين، والثاني: أنه معنويّ، والحركات إنما هي دلائل عليه، هو ظاهر قول سيبويه، وهذا الرأي هو ما تميل الباحثة إليه. ومعنى الإعراب هو قد تزول الحركة في الوقف مع الحكم بالإعراب بالتغيير والاختلاف لذلك الحادث بالعامل هو الإعراب[4] أي أنه منقول من الإعراب الذي هو البيان وأنه منقول من إعراب الرّجل إذا تكلم بالعربية والمتكلم بالإعراب موافق للغة العربية وأماّ المتكلم بغير الإعراب غير متكلم بالعربية[5]. وكما قال ابن مالك في "شرح التسهيل": الإعراب عند المحقّقين من النحويين عبارة عن المجعول آخر الكلمة مبنيّاً للمعنى الحادث فيها بالتركيب من حركة أو سكون أو ما يقوم مقامها، وذلك المجعول قد يتغيّر لتغيّر مدلوله وهو الأكثر كالضمة والفتحة والكسرة[6] . واتفق النحاة على غرض الإعراب إنما يدخل لمعانٍ تعتورُ الحركات والعرب قد نطقت به زماناً غير معربٍ، ثم أدخلت عليه الإعراب[7]. وقد أجاز بعض النّاس أن تكون العرب نطقتْ أولاً بالكلام غيرَ معرب، ثم رأت اشتباه المعاني فأعربته، ثم نقل معرباً، فتكلمّ به[8]. وهناك السؤال في أن الإعراب لِمَ دخل في الكلام؟ فالجواب أن يقال : إنّ الأسماء لما كانت تعتورُها المعاني وتكون فاعلة ومضافة ومضافاً إليها، ولم تكن في صُوَرها وأبنيتها أدلة على هذه المعاني، بل كانت مشتركةً جعلت حركات الإعراب فيها تنبيء عن هذه المعاني[9]. وهذا قول جميع النحويين إلا أبا عليٍّ قطرباً، فإنه عاب عليهم هذا الإعتلال، وقال: لم يعرب الكلام للدلالة على المعاني، والفرق بين بعضها وبعض لأناّ قد نجد في كلامهم أسماء متفقة في الإعراب مختلفة في المعاني، وأسماء مختلفة افعراب متفقة المعاني[10]. وحركات الإعراب هي الرفع والنصب والجر والجزم في آخر الكلمة في مثل "زيدٌ مجتهدٌ ومررت بزيدٍ وضرب عمرو زيداً. فالذال في كلمة "زيد" يغير بسبب شيء. وهذا السبب من العامل. والعامل هو الذي يؤثر على كلمة "زيد" ففي مثل "زيدٌ مجتهدٌ"، فـ"زيد" يرفع بالضمة وعامله الابتداء وهذا عند البصريين. وأمّا الكوفيون فيرون أنّ "زيد" يرتفع بالخبر أي مجتهدٌ[11]. وكذلك في المثل الثاني "مررت بزيدٍ" فكلمة مررت والباء هما العاملان المؤثران في زيدٍ بالكسر. والمثال الثالث "ضرب عمرو زيداً" فالعامل هو ضرب وعمرو يؤثر على زيداً بالفتحة. وقد قسّم النحاة القدامى فكرة العامل في النحو العربي على ثلاثة أقسام متضامة بعلاقة المعنى، وهي:- العامل والمعمول والعمل[12]. والعامل كما ناقشنا سابقاً هو المؤثرِّ في المعمول. فالمعمول هو ما يؤثر فيه العاملُ. وفي الأمثلة السابقة "زيدٌ وبزيدٍ وزيداً" معمولات تأثرت بالعوامل هي الابتدأ ومررت والباء وضرب وعمرو. وقسّم النحاة العامل إلى اللفظي والمعنوي. فالعامل اللفظي نحو: مررت بزيدٍ، فكلمة مررت والباء هما العامل اللفظي يؤثران على زيدٍ بالكسرة لفظياً وليس معنوياً. وأما العامل المعنوي فهو ما لا يُنظر ولا يُلمس، نحو: زيدٌ مجتهدٌ يُرفع بالابتداء، والابتداء هو العامل المعنوي غير الملموس. وكذلك قسم النحاة المعمولات إلى قسمين؛ معمول لفظي ومعمول معنوي، فالمعمول اللفظي، نحو: زيدٌ مجتهدٌ يتأثر بالإبتداء وتأثيره لفظياً ملموساً بالضمةز وأما المعمول المعنوين فهو نحو: "الصابئون" في الآية ) إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون( [13] . فـ "الصابئون" رفع على موضع "إنّ" لأنه قبل تمام الخبر[14]. والعمل هو نتيجة أو دوال النسبة في عملية العوامل والمعمولات. وقسّم النحاة العمل إلى أربعة أقسام، وهي الضمة (-ُ) في مفرد وجمع التكسير، الواو والنون في جمع المذكر والملحق به، الواو في الأسماء الخمسة، الألف في المثنى والملحق به. والنصب قسم إلى ثلاثة أقسام، النصب (-َ) في المفرد وجمع التكسير، الياء والنون في جمع التكسير والملحق به، والمثنى والملحق به، الألف في الأسماء الخمسة. والجر قسم إلى قسمين، الجر (-ِ) في المفرد وجمع التكسير، الياء والنون في جمع التكسير والمثنى والملحق بهما. والجزم، بالسكون وحذف حرف العلة وحذف حرف من الأفعال الخمسة.
يتضح لنا أن سيبويه على إدراك بالعوامل في كتاب يصل إلينا. وهو لا يعلل النحو بعلل غير وجودية أو استخداما تجرديا بل هو أوّل من أثبت العامل في النحو العربي وفكرته في كتابه "الكتاب" بعلل وجودية كما قوله "وإنما ذكرت لك ثمانية مجارٍ لأفرق بين ما يدخله ضَربٌ من هذه الأربعة لِمَا يحدث فيه العامل- وليس شيء منها إلا وهو يزول عنه- وبين ما يُبنى عليه الحرف بناء لا يزول عنه لغير شيء أحدث ذلك فيه من العوامل، التي لكل عامل منها ضَربٌ من اللفظ في الحرف، وذلك الحرف حرف الإعراب"[15]. ومن هذا القول يقسم العوامل إلى ثلاثة أقسام وهي؛ ما كان العامل لفظاً من الألفاظ بقوله "ما يدخله ضربٌ من هذه الأربعة لِمَا يحدث فيه العامل وليس شيء منها إلا وهو يزول عنه[16]. أي نوع العامل اللفظي أربعة أنواع؛ أولا الرافع، والناصب، والجار، والجزم. فذكر بعض الأمثلة منها وهي؛ يفعلُ في حالة الرفع، ولن يفعلَ في حالة النصب، ولم يفعلْ في حالة الجزم، وفي حالة الجر "مررت بزيدٍ" فالبا يؤثر على "زيدٍ"[17]. وقد ذكر سيبويه في موضع آخر أن في مثل "دخلتُ البيتَ" العامل هو الفعل دخل. وأماّ الثاني فذكر سيبويه في مثل "سقياً ورعياً" أنه ينتصب على إضمار الفعل، فهذا يدل على أنّ الفعل في تصوّره هو العامل وإن كان شيئاً مقدّر كما في قوله "وإنما ينصب هذا وما أشبهه إذا ذُكرَ مذكور فدعوت له أو عليه، على إضمار الفعل، كأنك قلت "سقاك الله سقياً" و "رعاك الله رعياً"[18]. والثالث، هو العامل المعنوي كما فهمنا من قوله " ما يُبنى عليه الحرف بناء لا يزول عنه لغير شيء أحدث ذلك فيه من العوامل، التي لكل عامل منها ضَربٌ من اللفظ في الحرف، وذلك الحرف حرف الإعراب"[19] أي ما كان العامل ليس له صورة ظاهرة ملموسة في مثل "زيدٌ كم مرّة رأيته"ن وذكر سيبويه أن العامل في "زيد" هو الابتداء.
وترى الباحثة أنّ ابن جني من علماء اللغة أنّه يعلل بالعامل الواجب أي بالعلة الحقيقة فقال "إعلم أنّ علل النحويين - وأعني بذلك حذّاقهم المتقنين، لا ألفافهم المستضعفين – أقرب إلى علل المتكلمين، منها إلى علل المتفقهين، وذلك أنهم إنما يحيلون على الحسّ، ويحتجّون فيه بثقل الحال أوخفّتها على النفس، وليس كذلك حديث علل الفقه"[20]. ومن هنا تأملت الباحثة رأي الأستاذ قطرب المستنير حينما تكلم في إنكار أنّ اللغة العربية قد اعتمدت على العلامات الإعرابية[21] كما قوله "وجود أسماء متفقة في الإعراب مختلفة في المعاني، وأسماء مختلفة في الإعراب متفقة في المعاني.
ويمكن القول بأن ابن مضاء تأثر بهذين رأيين لا سيما رأي ابن جني عند ما قال في كتابه الردّ على النحاة "هو المتكلم" لأن العوامل النحوية لم يقل بعملها عاقل، لا ألفاظها ولا معانيها لأنها لا تفعل بإرادة[22]. وهذا القول قريب بقول ابن جني أنّ المتكلم بنفسه هو العامل[23]. ويتسآل ابن مضاء عن "الفاعل" لماذا وبماذا يُرفع؟ هل بسبب أنّ العرب نطقت به سليقةً؟ وتسآل أيضاً "فلماذا لم تُعْكَسْ القضية بنصب الفاعل ورفع المفعول؟ وأجاب ربما ذلك لأن الفاعل قليل لأنه لا يكون للفعل إلا فاعل واحد، والمفعولات كثيرة، فأعطى الأثقل الذي هو الرفع للفاعل، وأعطى الأخف الذي هو النصب للمفعول، لأن الفاعل واحد، والمفعولات كثيرة، ليقلّ في كلامهم ما يستثقلون، ويَكْثُرُ في كلامهم ما يستخفون"[24]. وبعد ذلك قسّم الإعتراض على التقدير إلى ثلاثة؛ القسم الأول هو ما لا يتم الكلام إلا به، وأنّ حذفَها أوجزُ وأبلغُ نحو "سقيا". والقسم الثاني هو محذوف لا حاجة بقولٍ إليه بل هو تام بدونه في مثل "أزيداً ضربته" ويقول أن هذه الجملة لا دليل عليها. ويقول أنه مرفوع إذا كان مبتدأ ومنصوب على أنه غير مبتدأ، وجاء باقتراح أنّه إنْ روعي المرفوع رُفع وإن روعي المنصوب نُصب. والقسم الثالث، هو أنّه إذا اظهر العامل المحذوف فتغير الكلام في مثل "يا عبد الله"، وصار النداء خبراً. وبعد ذلك قدّم الإعتراض على تقدير الضمائر المستترة في المشتقات في مثل (زيد ضارب أبوه عمرا)، ضارب من المشتقات تضمن ضميراً مستترا. وكذلك ذكر ابن مضاء عن قول سيبويه في كلمة "علقت" ولا أقول "أعلمت" وهذا ما يتعلق بباب التنازع كما في مثال (قام وقعد زيد) فإن علّقت زيداً بالفعل الثاني. وثمّ ذكر عن باب الاشتغال في النحو العربي بقول "وإن كان العائد على الاسم المقدم قبل الفعل ضمير رفع، فإن الاسم يرتفع، كما أن ضميره في موضع رفع ولا يُضمر رافع كما لا يُضمر ناصب، إنما يرفعه المتكلم وينصبه اتباعاً لكلام العرب[25]. ومن هنا رأت الباحثة أنّ ابن مضاء يرفض فكرة الحذف والتقدير فهذا سبب أنه من المذهب الظاهري[26] مما اعتقد الناس في أيامه.
ونرى أنّ بعض اللغويين المحدثين يتأثر بهذه الفكرة تأثراً إيجابياًّ وسلبياًّ. ويبدو أنّ آراء الناقدين في هذه الفكرة ثلاثة مواقف[27]، وهي؛ موقف أوّل، موقف الذين يدعون إلى اعتماد المعنى لا اللفظ، وموقف ثان، موقف الذين يدعون إلى اعتماد اللفظ أو ما سماه الخصائص الشكلية، وموقف ثالث، وهم الذين يدعون إلى الجمع بين اللفظ والمعنى.
فالموقف الأول هو ما يتعلق بمن يدعو إلى اعتماد المعنى لا اللفظ، هو موقف إبراهيم مصطفى، وقد اتبع منهج الذين ردّوا على فكرة العامل حيث نبّه صاحب إحياء النحو إلى أنّ فكرة العامل هي فكرة فاشلة في اللغة العربية لأنها أدت إلى اختلاف الآراء وقادت إلى التجريدات الفلسفية[28]. وحقيقة هي محاولة مشابهة لتفسير اختلاف العلامات الإعرابية وقال فيها إنّ الحركات ذات معان محددة فالضمة علم الإسناد، والكسرة علم الإضافة، والفتحة علم الخفة، ولكنه اكتفى بهذا الفهم المبهم القاصر لطبيعة هذه الحركات. ويقول إنّ التقدير والتوسع فيه مؤدٍ إلى ضياع حكم النحو بقوله[29]"؛- ولم يجعلوا له كلمة حاسمة وقولاً باتاً، وكثّروا من أوجه الكلام، ومن احتماله لأنواع من الإعراب، يقدّرون العامل رافعاً فيرفعون ويقدّرون ناصباً فينصبون، ولا يرون أنه يتبع ذلك اختلاف في المعنى ولا تبديل في المفهوم". ثم أشار إبراهيم مصطفى إلى أنّ النحاة العرب تقيدهم بالفلسفةِ أضاع عليهم العناية بمعاني الكلام في أوضاعه المختلفة مثل: باب المفعول به[30] "كيف أنت وأخوك". وكشف إبراهيم مصطفى[31] كثرة الخلاف بين النحاة في العامل في بعض الأبواب، منها: المفعول به؛ ما عامل النصب فيه؟ وقد رأى جمهور البصريين أنه الفعل أو شبهه. وهشام الكوفي رأى أنه الفاعل وحده، ورأى الفراء أنّه الفعل والفاعل. وذهب خلفٌ إلى أنَّه معنى المفعولية. وذكر إبراهيم مصطفى هذه الاختلافات ليكشف جدلهم حول فكرة العامل، وبالتالي يستطيع أن يقنع القاريء بفساد هذه الفكرة. وادّعى الاستاذ[32] أنّ النحاة لم يفوا بمذهبهم في الإعراب واختلفوا حول العامل المعنوي، ذهب البصريون إلى أنّ الابتداء يرفع المبتدأ وهو عامل معنوي. والكوفيون يثبتون عاملا معنويًّا آخر يسمونه الخلاف.
وموقف ثان وهو موقف الذين يدعون إلى اعتماد اللفظ أو ماسماه الخصائص الشكلية. ورأت الباحثة منهم عبد الرحمن يعقوب وعبد القاهر المهيري. ويرى عبد الرحمن أيوب أنّ التقديرات في النحو العربي جزء كبير في إقامة النحو. وهذا يؤدي إلى الوهم والافتراض في المعنى. فهم يتوهمون ويفترضون أكثر مما أحق به كقوله " الكلمات التي لا يظهر عليها الإعراب في آخرها ومنها الإعراب المقدّر في المصدر المؤول ينصب بفتحة مقدّرة لأنه مفعول به ويؤولون المثال بـ "أريد القيام"[33]. ومن الكلمات التي يقدر فيها الإعراب الاسم المعتل في نحو: جاء القاضي. ورأيت عيسى، فالقاضي مرفوع بضمة منع من ظهورها الثقل، وعيسى منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها التعذر، ومن الكلمات التي يجري عليها التقدير ما يعرف باشتغال المحل بحركة المناسبة في نحو: ليس بقائم. فالباء حرف جر زائد و(قائم) يُعرب مجروراً بحرف الجر الزائد، وهي في الوقت نفسها خبر ليس منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة. وهذا يبدو أن النحاة يخيلون الأجوبة بدون وعي بأن الأجوبة تؤثر على صلاحية المعنى الحقيقي. ورأى أنّ في هذه الحالة أنّ النحاة لا يفرق بين المرفوع والمنصوب والمجرور بل يقدروه بدون العلامة الشكلية . وسأل الأستاذ عبد الرحمن من أين أتى النحاة بكلمة "مقترنان" في مثل "كل رجل وضيعته مقترنان". فرأى أنّ النحاة يتوهّمونها ويفترضون المعنى. ولا يقف الأمثلة كهذه فحسب بل سخّر عبد الرحمن من النحاة في تقدير عامل في "يا محمدُ" تقديره: "أنادي محمداً". وقال إنّ هذين المثالين لهما الفرق، فالأول، جملة إنشائية، وأما ثانية فجملة خبرية. وهنا لا يفرق النحاة بينهما لأنّ الجملة الثانية مُحَصَّلة من تقدير الجملة الأولى. إذْ ذلك يمكن نقول أنّ الأستاذ عبد الرحمن أيوب هو رجل يهتم بالخصائص الشكلية أكثر.
وعبد القاهر المهيري على غرار عبد الرحمن يعقوب كما يقول في كتابه نظرات في التراث اللغوي العربي أنّ الفاعل يبدل موقع المبتداء كما في هذا المثال: الزائر وصل، الزائر: هو فاعل بدىء به مرفوعا، وصل: فعل مطابق لفاعله، إن الزائر وصل، الزائر: هو فاعل بدىء به منصوبا بإن، وصل: فعل مطابق لفاعله، الزائرون وصلوا، الزائرون: فاعل بدىء به مرفوعاً، وصلوا: فعل مطابق لفاعله[34]. ورأى المهيري أنّ الفعل "وصل" في مثل "الزائر وصل" يرفع "الزائر" وليس يرفعه الابتداءُ. وهذا على ما يبدو مشابه لرأي الكوفيين الذي جاء ردّا على قول البصريين إن المبتدأ لا يُرفع بالابتداء بل المبتدأ والخبر يترافعان. إذاً، هذا الرأي لا يخرج عن العامل والمعمول، بل هو اختلاف تفسير له، بل هو محاولة لفهم بناء الكلمة من حيث المعنى كما هو واضح من قوله: ليس كل فاعل مرفوعاً، وليس كلّ مفعول منصوباً، وليس كل مضاف إليه مجرورا. ويمكن إعراب الاسم في أول الجملة بالنظر إلى معنى الجملة، فالمعنى يصير هو الحَكمُ[35].
ترى الباحثة كأنّه يريد أن يطبق النحو العربي بطريقة اللغة الإنجليزية أي الزائر subject، ووصل verb، فتطابق الجنس والعدد يحدث فيه. والسؤال هل نحتاج إلى هذه التبديلات وفي الوقت نفسه هناك نظام أقوى تنظم الكلام وهو رأي الجرجاني فلو اتبع فسوف فائدة كبيرة تفيد القواعد النحوية العربية التي أثبتها النحاة القدامى.
وموقف ثالث، هو موقف الذين يدعون إلى الجمع بين اللفظ والمعنى أو سماه المعنى. ومنهم إبراهيم أنيس المفكرين المحدثين الذي يرى أنّ قول قطرب عن اتفاق واختلاف الإعراب والمعنى له قيمة ولا بد أن يراجعه ويلاحظه دون إنكار. وذكر الأستاذ أنّ تحريك أواخر كل الكلمات لم يكن في أصل نشأته بل هو صورة للتخلص من إلتقاء الساكنين[36] في مثل (جزاؤهم العقاب) كان (الميم) في الوسط تليها مباشرة (اللام) وبعد (اللام) مباشرة (العين)، وكل منها حرف وليس بحركة. فندرك هنا أنه قد توالي في وسط الكلام ثلاثة أحرف، وهو أمر يأباه نظام توالي الحروف الكلام العربي، فتخلص العرب من مثل هذا بتحريك الحرف الأول من هذه الحروف الثلاثة المتتالية[37]. ورأى الأستاذ إبراهيم أنيس أنّ إسقاط حركة الإعراب في التنوين يدل على عدم الإلتزام كما في بعض اللهجات فهم يلتزمون صورة واحدة من الإعراب لا ينحرفون عنها في كل الحالات والمواضع[38]. ورأى أنّ لا يعنيه من الجملة إلاّ ركناها الأساسيان، نحو (المسند) وهو ما يناظر "محمول" المناطقة، و (المسند إليه) وهو الذي يعادل "الموضوع"[39]. وسمي هذا باسم "الكتل"[40]. وسأل إبراهيم أنيس لماذا تسامح النحاة القدامى في إسقاط الإعراب في إلتقاء الساكنين[41]، والتنوين[42] وفي مواضع من الشعر[43]. وكان النحاة القدامى هم متعصّبون بحركة الإعراب، بل إنّ منهم اعتبرها دلائل على المعنى. وقراءة أبو عمرو بن العلاء بتسكين أواخر الكلمات في عشرات من الآيات القرآنية، والنحاة لا يرون جواز حذف الحركات الإعرابية إلا في الوقف، ويرون أن ما روي عن أبي عمرو ليس حذف الحركة بل اختلاسها[44].
إذا كان الأستاذ إبراهيم أنيس يرى أنّ إسقاط الإعراب عند النحاة القدامى بسبب إلتقاء الساكنين فإنّ تمام حسان من جهته -أي يهتم بموقف المعنى- يرى أنّ كل كلمة في الجملة تتضافر أو يتناسق بعضُها ببعض كقوله " إنّ الجملة في تصوّره عبارة عن "منظمة من الأجهزة"[45] ويقصد بقوله بالأجهزة الوظائف التي ترتبط بالكلمات المستخدمة في الجملة. فالفعل والفاعل والمفعول مثلاً يرتبط بعضُها ببعض في الجملة لتكوّن معنى واحداً فلا داعي للحديث عن كون واحد من العناصر عاملاً في الآخر. وقد قسم الأستاذ تمام في مبحثه عن القرائن النحوية المتضافرة إلى القرائن النحوية اللفظية والقرائن النحوية المعنوية. كقوله "إن القرائن تتضافر بمختلف أنواعها وتؤدي المعنى المقصود من كل أسلوب، وإنها بذلك تغني عن فكرة العامل عند النحاة"[46] وعن دور الحركة الإعرابية فما هي إحدى هذه القرائن وقد تتخلف ويحل محلها القرائن الأخرى. وهذا يعني أن تمام حسان لم يلغى حركة الإعراب ولكنه قلل من دورها. وسوف تتحدث الباحثة عن هذه القرائن في مبحث الثالث عن هذا الفصل.
ومن هنا لاحظنا أنّ الإعراب مما قعّد النحاة القدامى له نظر خاص لدى النحويين واللغويين. وهذا النظر يؤدي إلى النقاش الطويل عن دور الإعراب وحركاته في تعيين معاني الكلمات وتقدرها. وحاصل على ذلك، قُسم النحويون واللغويون إلى ثلاثة أقسام، أوّلا مَن الذين ميول إلى الفكرة الإعرابية دون المعنوية، وثاني، ممن يرى أن معنى الكلمة هو أهم شيء في فهم الجملة وليس الإعراب، وثالثا، ممن ميول إلى التضام بين المعنى واللفظ في فهم الجملة فهما صحيحا. هذه النظرات إشارة واضحة إلى أنّ حركات الإعراب الرفع والضم، النصب والفتح، الخفض والكسرة، الجزم والسكون مما افتخر افتخارا كبيرا لدى النحويين القدامى لها تساؤلات كثيرة.
المصادر والمراجع:-
إبراهيم أنيس، من أسرار اللغة، القاهرة: المكتبة المصرية، 1975م.
إبراهيم مصطفى، إحياء النحو، القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1959م.
ابن جني، الخصائص، بيروت: دار الكتاب العربي، 1952 .
ابن مضاء، الرد على النحاة، تحقيق شوقي ضيف. القاهرة: دار المعارف، ط.3، د.ت.
الأنباري، الإنصاف في مسائل الخلاف، بيروت: دار الكتب العلمية، ط.1، . 1998م.
تمام حسان، اللغة المعيارية والوصفية، القاهرة: دار الثقافة، 1992م.
تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها، المغرب: دار الثقافة، د.ت.
الزجاجي، الإيضاح في علل النحو، تحقيق مازن المبارك. بيروت: دار النفائس، 1407هـ - 1986م.
سيبويه، الكتاب، تحقيق إميل بديع يعقوب. بيروت: دار الكتب العلمية، 1999م.
السيوطي، الأشباه والنظائر في النحو، تحقيق عبد العال سالم مكرّم، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1406هـ- 1985م.
عبد القادر المهيري، نظرات في التراث اللغوي العربي، تونس: دار الغرب الإسلامي، 1993م.
عزالدين مجدوب، المنوال النحوي العربي قراءة لسانية جديدة، تونس: دار محمد علي الحامي، 1998.
محمد عيد، أصول النحو العربي في نظر النحاة ورأي ابن مضاء وضوء علم اللغة الحديث، القاهرة: عالم الكتب، 1997م.
[1] انظر السيوطي، الأشباه والنظائر في النحو، تحقيق عبد العال سالم مكرّم، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1406هـ- 1985م، 1/188.
[2] المصدر السابق، 1/190 – 191.
[3] المصدر السابق، 1/ 172- 171.
[4]المصدر السابق، 1/ 174.
[5]المصدر السابق، 1/ 174.
[6]المصدر السابق، 1/ 178 - 179.
[7]المصدر السابق، 1/ 180 - 181.
[8]المصدر السابق، 1/ 183.
[9]المصدر السابق، 1/ 184.
[10]المصدر السابق، 1/ 180.
[11] الأنباري، الإنصاف في مسائل الخلاف، 1/ 49.
[12] كما ذكرت الباحثة سابقاً.
[13] سورة المائدة: 69.
[14] كما وافق لدى الكوفيين وتمام حسان، انظر البحث سابقا.
[15]سيبويه، الكتاب، 1/41.
[16] المرجع السابق، 1/41.
[17] المرجع السابق، 1/41-42
[18] المرجع السابق، 1/372 – 373.
[19]المرجع السابق، 1/41.